كتاب عربي 21

"أمة المواطنة" في وثيقة "دستور المدينة".. المواطنة من جديد (17)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600

تعد وثيقة المدينة جهدا واجتهادا دستوريا مبكرا في المسألة الدستورية المستحدثة في النظم المعاصرة. أنكر البعض على هذه الوثيقة أن يطلق عليها "دستور المدينة"؛ محاولا التنقيص من قدرها وأثرها، رغم أن المستشرق الإنجليزي القس "مونتجمري وات" هو من أطلق عليها ذلك. والواقع أن النفس الدستوري في تأسيس الجماعة السياسية كان أمرا واضحا فيها، من غير مماحكات نظن أنها نابعة من نظر مسبق بأن إسهاما سياسيا معتبرا من الحضارة والمرجعية الإسلامية لم يحدث في سياقات الفكر والممارسة.

لم تُحصر المواطنة في الدولة الإسلامية الأولى في المسلمين وحدهم، بل نصت الوثيقة على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني الدولة، وحددت ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات.

ففي فقرتها (25) تقرر الوثيقة أن "يهود بني عوف أمة مع المسلمين. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم". ولا تقف عند يهود بني عوف وحدهم، وإنما تمضي النصوص من الفقرة (26) إلى الفقرة (36) لتقرر باقي قبائل اليهود مثل ما تقرر ليهود بني عوف؛ بل إن بعض النصوص تشير إلى واجبات على المشركين من أهل المدينة، مما يشير إلى أنهم دخلوا في حكم الدولة الجديدة وخضعوا لأسس تنظيمها التي وردت في وثيقتها.

وأوضح هذه النصوص هو نص الفقرة (20 ب) الذي يقرر أنه "لا يجير مشرك مالكا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن". وهكذا يتبين أن عنصر الإقليم (المدينة) والإقامة المرتبطة به عند نشأة الدولة هو الذي أعطى هؤلاء اليهود والمشركين حق المواطنة، وضمن لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها الوثيقة لهم.

وقد نظمت الأحكام الإسلامية بعد ذلك في القرآن والسنة أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية، وعرضت لذلك كتب الفقه الإسلامي المتخصصة في موضوع أهل الذمة، والمبسوطة الشاملة لأبواب الفقه كافة تحت عنوان "أهل الذمة". ولا يختلف الباحثون (من مسلمين وغير مسلمين) في أن الإسلام قد كفل لأهل الذمة حياة كريمة عزيزة؛ لحمتها العدل معهم والمساواة بينهم وبين المسلمين، وفق أحكام الإسلام التي تقرر ذلك، وسداها الرفق بهم والتسامح معهم في كل ما لا يخل بأحكام الدين الإسلامي أو يعرض نظام دولته لخطر أو ضرر.

فالنظام الإسلامي هو النظام القائم على الشريعة الإسلامية، المؤسسة تفاصيله على قواعدها في الاجتهاد والاستنباط والتفسير والتأويل. وغير المسلمين هم شركاء المسلمين في الوطن منذ كانت للإسلام دولته: دولته الأولى في المدينة المنورة، ودوله التي توالت أيامها بعد انتقال النبي عليه السلام إلى الرفيق الأعلى، وحتى يوم الناس هذا.

من الضروري الإشارة إلى أن هناك أصولا مهمة في هذا المقام تجدر الإشارة إليها والتي تتمثل فيما يلي:

الأصل الأول: تحكيم نصوص الشريعة الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة والأصل الثاني: قبول ما تقتضيه المشاركة في الدار، أو الوطن بتعبيرنا العصري. والأصل الثالث: إعمال روح الاخوة الإنسانية، بدلا من إهمالها، فكل قول أو رأي أو فعل نافى روح الأخوة فقد غفل صاحبه عن أصل عظيم من أصول الإسلامح نطق به القرآن الكريم والسنة الصحيحة.

تكررت العبارة "إنهم أمة واحدة من دون الناس" في متن الوثيقة؛ ولنا أن نؤكد أن المراد بكلمة أمة الجماعة السياسية المتميزة بقرينة قوله "من دون الناس" والتمايز قائمان على معيار جديد غير قبلي وغير دموي، وهو معيار عقيدي..

إن وحدة الأمة أمر ثابت لا يمكن التشكيك في ثباته وحرمة الإخلال به، ولكن في إطار وحدة الأمة يمكن أن يتعدد المجتمع السياسي ويمكن أن تتعدد الدولة حسب المجتمع السياسي داخل الأمة الواحدة.. الإسلام يقبل فكرة تأسيس مجتمع سياسي متنوع في دولة واحدة ونظام حكم واحد على أساس الإسلام، يتمتع الجميع فيها بحق المواطنة الكاملة. ولا يشترط لإقامة دولة أن تكون لمجتمع إسلامي نقي خالص.

عند وصول الرسول صلى الله عليه وسلّم المدينة المنورة مهاجرا، سارع إلى إرساء معالم الدولة الإسلامية الأولى، وعزم على تأسيس التجربة السياسية الجديدة، فوجد لديه واقعاً لا يمكن بحال حمله كلياً على أساس العقيدة، حتى أنَّ المسلمين المتوحدين بالعقيدة لم يكونوا واقعاً واحداً، فالأنصار كانوا يمتلكون الأرض والإمكانات والانتماء إلى الأرض، على عكس المهاجرين، الأمر الذي اقتضى المؤاخاة بينهم لتجاوز التمايز الواقعي الذي يحول دون صهرهم في بوتقة التجربة الجديدة. وتجلى ذلك في قيامه صلى الله عليه وسلم بإزالة أسباب الخلاف بين الأوس والخزرج، وتأسيس المسجد الذي اتخذ مركزا للدولة تقام فيه الصلوات وتتخذ منه القرارات، ثم أمر بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهو الحدث الفريد في العالم الذي وحّد مشاعر وآلام المسلمين، وجعلهم فعلا كالجسد الواحد.

كما وجد لديه خليطاً من غير المسلمين من المشركين واليهود؛ وهنا فإنَّ إسقاط العقيدة كأساس للمشروع السياسي المراد تأسيسه في المدينة سوف يصدق على قسم من الناس ولا يصدق على القسم الآخر. فالأخوة الدينية والمشترك العقائدي يصلحان لتكوين رابطة بين المؤمنين فقط، وضمن شروط لتجربة أخرى تأخذ بكافة أسباب ومقتضيات التجربة الدينية البحتة. وواقع المدينة لم يكن كذلك كونه يشتمل على غير المسلمين، ولوجود واقع آخر يميز التجربة الإنسانية في أبعادها العقدية والاجتماعية.

وهنا فإنَّ لوازم المشروع السياسي المراد تأسيسه من خلال هذه التجربة الإنسانية تقتضي إيجاد رابطة أعم تصدق على واقع المدينة المتنوع والمتعدد في أطيافه وألوانه المجتمعية والعقيدية. وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما عقـد اتفاقاً مع المسلمين وغير المسلمين، عرف باسم "صحيفة المدينة"، فكان بحق أول من وضع المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة المسؤولة والمحدودة بحدود وضعها الرسول؛ كعلامات توقع مسؤولية من أخلّ بها تحت دائرة حكم الإسلام ومرجعيته طبقا لأحكام هذه الصحفة (صحيفة المدينة) التي تعد بالمفهوم المعاصر مرجعية دستورية لسكان المدينة النبوية.

إذ إنَّ تلمس جوهر هذه الصحيفة (التي تتضمن 47 بنداً) يوضح المشتركات القيمية مع مبدأ المواطنة، من خلال الاعتراف بالتعددية واحترام حقوقها وواجباتها لكل من سكن المدينة مسلماً كان أو غير مسلم.

ونلاحظ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصف المسلمين واليهود وغيرهم ممن دخلوا في هذه الاتفاقية بأنهم أمة من دون الناس، وأنهم جماعة لديها اتفاق يخصها دون غيرها من الجماعات خارج المدينة.

وفي هذا الشأن نصت الصحيفة: "هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلّم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم امة واحدة من دون الناس". وقد أكدت الصحيفة أيضا مفهوم النصرة المتبادلة بين سكان المدينة، مسلمين وغيرهم، كما في البنود (16-37): "إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم".

وتعرض الصحيفة في مواضع مختلفة أن الاحتكام حين التشاجر والاختلاف هو لله ورسوله (البنود 23- 42)، مما يعني تأكيد السيادة الشرعية وأصول المرجعية.

وهذا التعريف الواسع للأمة هو إطار الجماعة السياسية المراد تأسيس مجتمع المدينة على أساسه؛ من خلال بنود هذه الصحيفة التي شكّلت إطاراً واسعاً للتعايش بين الأديان والجماعات الإنسانية المتنوعة. وهذا يتطابق مع مفهوم المواطنة القائم على فكرة العلاقة العضوية بين أفـراد المجتمع السياسي للدولة، والتي تحتمها ضرورات تنوعهم وتعدد أطيافهم؛ مما يقتضي إيجاد رابطة تشملهم جميعا.

 

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (1)
عزام فرا
الأربعاء، 09-09-2020 07:11 م
يمكننا القول إن النبي محمد ص قد أقام في المدينة المنورة وفقا للمصطلحات الدستورية المعاصرة دولة فيدرالية اي دولة مكونة من عدة مجتمعات سياسية مقسمة على أساس ديني او عقائدي وكل مكون أو مجتمع سياسي يتمتع بسيادة جزئية أو ذاتية ضمن السيادة الكلية للدولة أو السيادة الجامعة للأمة ولكن يبقى هنالك فارقا أساسيا وجوهريا بين مفهوم الفيدرالية المحمدية والفيدرالية الغربية فالفيدرالية الغربية تشترط على اي كتلة بشرية ذات خصائص ثقافية أو عرقية تريد أن تشكل مجتمعا سياسيا أو حكم ذاتي داخل الدولة أن تشغل إقليما اوحيزا جغرافيا أو مكانيا على الارض ضمن الدولة بمعنى أن مفهوم الفيدرالية عند الغرب مرتبط بالجغرافية ووفقا لهذا المفهوم الغربي لا يحق ليهود يثرب أن يمنحوا حكما ذاتيا كما فعل معهم الرسول لأن يهود يثرب يعيشون في احياء مختلطة مع المسلمين وهو شأن المسيحيين في العالم العربي حتى يومنا هذا بينما يحق للمكونات العرقية الأخرى في العالم العربي كالاكراد والامازيغ فقط إقامة الحكم الذاتي لأنها تشغل أقاليم محددة في بلدانهم هذا وفقا لمعايير الديمقراطية الغربية وقد حلت الأخيرة هذه المعضلة بألغاء الأديان وحرمان كافة المكونات الدينية من انتماءها العقائدي واستبدالها بمعتقد جامع للأمة هو العلمانية أما الديمقراطية المحمدية فقد أسقطت الشرط الجغرافي لمكونات الأمة وسمحت لهم بإقامة مجتمعات سياسية متعددة ضمن الدولة تمارس خصائصها الثقافية والعقائدية كما حدث في دستور المدينة