قضايا وآراء

في المُصَاب نَحْنُ جَسَدٌ واحِد

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

ما أصاب بيروت من رعب ودمار وخسائر بشرية ومادية، بسبب الانفجار الكبير في مرفئها، أصابنا نحن العرب في الصميم، فجراحنا في الجسم العربي واحدة، ومصابنا واحد، ومشاعرنا مشتركة.. ولا يمكن أن يوهنَها أو يبترَها المتعصبون والجهلة وقصارُ النظر من الساسة والمتاجرين بالمبادئ والدم والإنسان والسياسة، ولا المسكونون بأمراض وبتعصّب وتطرف وأحقاد، ولا العاملون تحت رايات التبعيّة والتجزئة والفتنة وتفتيت الوطن والشعب، ولا المنادون بأصول وانتماءات عتيقة عفا عليها الزمن وليس لها عمق في الوجدان الوطني والقومي، ويرفضها العقل والوعي والمنطق والواقع المعيش، والتعايش بين الناس منذ آلاف السنين. 

إن أولئك الذين تعلو أصواتُهم عند كل مُصاب عربي، ويجاهرون بالعداء والشَّماتة والتّشفي بمناسبة وبغير مناسبة، ويرتزقون بتنمية العداء والكراهية، إنما يخدمون أهداف أعداء الأمة وبرامجهم، سواء وعوا ذلك أم لم يعوه، ويعملون على تسميم العلاقات العربية-العربية الرسمية والشعبية، علاقات الأقطار وعلاقات الشعوب بعضها ببعض، من خلال الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي التي تنشر ما يقولون وتوسّعه وتقدّمه حالة عربية شبه عامة.
 
لقد سمعنا تلك الأصوات على مدار عقود من الزمن في النّكسات والنّكبات والأزمات، سمعناها فيما يتعلق بمصابنا في فلسطين والعراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر والجزائر وتونس و.. و.. إذ كانت ترتفع أصوات تنتقد بعداء وتبث الإحباط، وتنشر الإساءة والكراهية، وتؤسس لمواقف تنطوي على نقمة وتغري بتصرفات عدائية غير مسؤولة.. لكن تلك الحالات وأصحابها تبقى حالات شاذة ومرفوضة من أكثرية الشعب العربي، ولا يمكن أن تقدم الوجه الحقيقي للأمة العربية.. ويدخل في إطارها اليوم ما قاله أولئك الذين رفعوا عقيرتهم بسوء ضد لبنانيين عند وقوع المصاب في بيروت، ولبنانيون "يَتَفَيْنَقون بتعصب وجهل"، إذ كلنا كنعانيون، والفينيقيون فخذ من الكنعانيين، والكنعانيون عرب، وآخرون منهم متعصبون أو محتجون على ما حدث وما كان، وقد ذهبت بهم المعاناة والعصبية إلى العُصابية بلغت حدَّ التوقيع على عريضة تدعو فرنسا لتعود دولة انتداب على لبنان بعد مُصابه الأخير.. وهذا ما يرفضه لبنان واللبنانيون والعرب وكل متعلق بالاستقلال والحرية. 

إن الكثيرين في الوطن العربي وفي أنحاء من العالم يدركون ما تعرض له لبنان من حروب واحتلال وأزمات سياسية واجتماعية وطائفية كانت معاناة اللبنانيين من جرائها وما زالت كبيرة جداً، ويتعاطفون مع لبنان الوطن والشعب.. وزاد في الطين بِلَّة في وضع لبنان انعكاس أوضاع المنطقة عليه، وهي حال كل قطر من أقطار الوطن العربي في الأزمات، كما زادها الوضع الاقتصادي اللبناني المتردي، وما يشكو منه اللبنانيون من فساد مزْمِن، وشكواهم من حكومات لم تنجح في معالجة أزمات خانقة.. ولكن كل ما يتعرض له بلد، وما يمكن أن يتعرض له، ولبنان في المقدمة من ذلك، لا يمكن أن يبيح لمواطنين لبنانيين مخلصين معتدِّين بوطنيتهم واستقلالهم، أن ينادوا بعودة الاستعمار الذي يحتفلون سنوياً برحيله عن بلدهم وبالحرية والاستقلال.

إن الشعب هناك، كما هي حال الشعب في أقطار عربية منها الآن فلسطين وسوريا وليبيا واليمن والعراق، يعاني أشد المعاناة من حروب واحتلال وأزمات معقّدة، والأمة العربية في حالة تفكك وتشتّت وعجز عن معالجة الأوضاع العربية بمسؤولية قومية، والتصدي للأزمات والحروب بإرادة جماعية مخلصة، واعية لأهدافها ووسائلها وأدواتها.. 

والموضوعي والحقاني والعادل والأخلاقي والمفيد والمنقذ و.. و.. كل ذلك يقتضي أن يتخذ القادة والمسؤولون كلَّ ما ينبغي اتخاذه لوقف الاقتتال العربي ـ العربي، والعربي ـ الإسلامي، وأن يتوقف القتل والتدمير والتخريب الداخلي الناتج عن التفجيرات والحرائق المتكاثرة في عواصم ومدن عربية، وأن تُجْمِعَ الأمة على سِلْمٍ بَينيِّ، وتعاون بناء، وحوار خلاق، لحل الخلافات ووضع حلول لقضايا ومواقف وأوضاع يقتضي الواقع الراهن والمستقبل القريب معالجتها والتصدي لتحدياتها بحكمة وحنكة ومسؤولية أخلاقية وقومية وإنسانية.. وهذا كله من الضرورات التي تقتضيها مواجهة الانهيارات المتتالية مواجهة فعالة.. 

 

إننا إذا عدنا إلى مبادئنا وانتمائنا وضمائرنا ديننا وقيمنا يمكننا أن نؤسّس لانتصار قضيتنا المَركزية، قضية فلسطين، حيث أن انتصارها بداية طريق خلاصنا، وهو انتصار للحق والعدل والحرية والقيم الإنسانية في العالم، ومساهمة فعالة منا في وضع حد للفساد والمفسدين، للإرهاب والإرهابيين،

 



ومن أجل هذا يترتَّب على كلٍّ منا أن يحمي ظهرَ الآخر لكي يحمي الآخرُ ظهره في معركة نهوض ووجود.. وتأتي على رأس تلك الأولويات وفي المقدمة منها اليوم قضية فلسطين، ومحاولات العدو تصفيتها باتباع نهج متعدد الوجوه سياسي، وعسكري، وأمني، وتوسعي استعماري، واقتصادي، وتدميري للحق الفلسطيني والمؤسسات الداعمة لهذا الحق، والأوضاع المتفجرة في كل من سوريا ولبنان والعراق وليبيا واليمن و.. وهذه معركة عربية ومسؤولية عربية عامة بكل الأبعاد والمعاني، ومَن يرى نفسه من العرب بعيداً عنها أو ناجٍ من تأثيرها وعقابيلها وانعكاساتها عليه هو مخطئ تماماً.. فضعف الجزء يضعف الكل بصورة ما والعكس صحيح، والأمة العربية كلٌّ في أجزاء وأجزاء تكون منها الكل، وهي جسم واحد إذا اشتكى منه عضوٌ ينبغي أن تتداعى له سائرُ الأعضاء بالسَّهر والحُمَّى.
 
إننا إذا عدنا إلى مبادئنا وانتمائنا وضمائرنا ديننا وقيمنا يمكننا أن نؤسّس لانتصار قضيتنا المَركزية، قضية فلسطين، حيث أن انتصارها بداية طريق خلاصنا، وهو انتصار للحق والعدل والحرية والقيم الإنسانية في العالم، ومساهمة فعالة منا في وضع حد للفساد والمفسدين، للإرهاب والإرهابيين، للمستغلين والنهابين، وللاستعمار بأنواعه وصوره وأشكاله، للصهيونية وما يتحكم به الصهاينة والرسماليون الكباروالأقوياء والفاسدين والمفسدين ولكل المالكين لمفاتيح القوة والمال والقرار.

إن تصدينا لكل الأزمات في وطننا مفتاح نجاحنا ونهضتنا، وعلينا أن نستخدم في سبيل تحقيق ذلك أدوات العصر ووسائله وعلومه وتقنياته "الصوت والصورة والمعلومة ورشاقة القلم المنتمي العارف المسؤول، وحركة اللسان في وسائل الإعلام والاتصال التي تغطي مساحات دول كثيرة في أنحاء العالم.. وبذلك نبدأ المشاركة الفعلية في رفع الظلم عن أنفسنا، واستعادة حقوقنا ومكانتنا، ونساهم في حل أزمات مليارات البشر نحن منهم، ونسلك سُبُل الارتفاع بالإنسان وتعزيز مكانة القيم الخيرة في الأنفس وفي المعاملات.. وهذا يستدعي منا أن نعمل على استقطاب ملايين الناس من كل أنحاء العالم. 

 

لا بد من التوقف عند أهم مفتاح من مفاتيح العمل والحل والعقد، هو مفتاح مواجهة المسؤول الكفؤ لنفسه ولمسؤولياته، وقيامه بواجباته، وتخليه عن كل نزوع مريض أو مُمْرِض..

 



ومن أجل ذلك لا بد من أن ندخل مداخل لا مَعدى لنا عنها، مداخل الوحدة والقوة، الأخلاق والإيمان، العلم والمعرفة، التطبيق العملي للعلوم والمعارف والتقانة، والإبداع في الاختراع والتقنيات وتطبيقاتها عبر منهج يهدف إلى تحقيق نهضة شاملة في كل المجالات.. إنَّ علينا أن نرفع راية التضحية من أجل الأمة والبشرية، وأن نخوض ميادين العمل والإبداع الخلاقين، وأن نرفع شأن الإنسان والحرية والحقوق والبطولة في الدفاع عن الحق والأرض والشعب والتاريخ.. وبذلك نضع أقدامنا على طريق الكينونة الفاعلة والحضور الفعال بوعي ومعرفة واقتدار، ونتقدم نحو النصر. 

وفي الختام لا بد من التوقف عند أهم مفتاح من مفاتيح العمل والحل والعقد، هو مفتاح مواجهة المسؤول الكفؤ لنفسه ولمسؤولياته، وقيامه بواجباته، وتخليه عن كل نزوع مريض أو مُمْرِض.. وعند عتبة ذلك أرى أنه عندما يتسلم شخصٌ مسؤولية عامة أن ينظر إلى أنه يؤتَمن على أمر عام من أمور الناس، والمؤتمَن مسؤول ومُحاسَب وليس مالكاً للوطن والناس وليس هو فوق القانون.. وفي هذا الوضع يُفتَرَض فيه أن يقف عند عتبة ذلك الحدث ليخلع عنه كل ما يتعلق بالذاتي والأناني والمصْلَحِيِّ، والحزبي، والطائفي، والعشائري، والمناطقي، والشللي، وأن يعلي الانتماء للوطن والشعب والأمة ويضعه فوق كل انتماء، وأن يفعل ذلك بموضوعية وشفافية وإخلاص وإيمان، وأن يرفع مصلحة البلاد والعباد راية وغاية، ويتمسك بالعدل والحق والأخلاق وبالحرية المسؤولة مدخلاً لاستثمار طاقات الشعب وتوظيفها على أفضل وجه.. 

عندها يضع قدميه على طريق العمل الصحيح من أجل الحقيقة والنهضة والوطن والأمة، ويبدأ خطوات الارتفاع بالشأن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخَدَمي إلى المستوى الإنساني، ويكتسب ثقة الناس واحترامهم ليكونوا سنداً له، ويعمل باقتدار مستقطباً كل قادر على الأداء والإبداع بأخلاق وانتماء.

والله من وراء القصد.

التعليقات (0)