قضايا وآراء

السياسة والأخلاق في البيان السياسيّ لأبي بكر الصدّيق

محمد خير موسى
1300x600
1300x600

في خطبة أبي بكرٍ الصدّيق التي تمثّل الوثيقة السياسية للحكم في دولة الحكم الرّاشدي، وبعد أن بيّن أبو بكرٍ رضي الله عنه معالم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وأسسها؛ انتقل ليعلن قاعدة من قواعد عمله السياسيّ، وقاعدة ناظمة للعلاقة بينَه وبين مَن هم تحت حكمه؛ فقال: "الصدقُ أمانة والكذب خيانة".

ومن الواضح أنَّ هذه القاعدة هي من القواعد الأخلاقيّة، فما علاقتها بالعمل السّياسيّ من جهة؟ وما هو تموضعها في العلاقة بين الحاكم والمحكوم من جهةٍ أخرى؟

العلاقة بين السّياسة والأخلاق


عند الحديث عن الأخلاق في السياسة فإنه يقصد بذلك أمران اثنان:

الأوّل: حضور حزمة القيم السّامية في العمل السّياسي.

والثّاني: تحريرُ العلاقة الشّائكة بين هدف العمل السّياسي والوسيلة الموصلة إليه.

كان من أوائل من أصّل للفصل بين السياسة والأخلاق؛ المفكّر الإيطالي نيكولو ميكافيللي في كتابه "الأمير" الذي ألّفه عام 1513م ولم ينشر إلّا عام 1532م، بعد وفاته، هذا الكتاب الذي يعدّ اليوم "الكتاب المقدّس" للعمل السّياسي في المنظومة العلمانيّة واللّيبراليّة.

وهو صاحب العبارة الأشهر والأكثر تداولا في عالم السّياسة اليوم "الغاية تبرّر الوسيلة"، وإليه تنسب النّظريّة الميكافيلية التي تؤسّس للفصل بين السياسة والأخلاق.

وهو يؤكّد أنَّ نجاح العمل السّياسي يكون بقدر ما يحقّقه من نتائج في الواقع، مثل استقرار الدّولة والحفاظ على مصالحها، وتماسك النّظام وقوّته، مهما كانت الوسائل الموصلة إلى ذلك غير أخلاقيّة.

 

نجاح العمل السّياسي يكون بقدر ما يحقّقه من نتائج في الواقع، مثل استقرار الدّولة والحفاظ على مصالحها، وتماسك النّظام وقوّته، مهما كانت الوسائل الموصلة إلى ذلك غير أخلاقيّة

بل إنَّ الميكافيلليّة تعتقد بأنَّ الأخلاق مضرّة بالسّياسة، وأنّ الالتزام الأخلاقيّ يعرقل النّجاح، وأنَّ الدّول التي تعتمد على الأخلاق سرعان ما تنهار.

وجاء بعد ذلك "نيتشه" الملقّب بفيلسوف القوّة ليؤكّد بأنَّ السّياسة لا علاقة لها بالأخلاق مطلقا، والحاكم المقيَّد بالأخلاق هو سياسيّ فاشل لا يستقرّ على عرشه ولا يدوم في حكمه. والأخلاق عنده هي سلاح الضّعفاء البائسين.

وهذا لا يعني أنَّ هذا التوجّه هو الأوحد في الفكر الغربي، بل هناك مدرسة فكريّة تقوم على رفض الفصل بين السّياسة والأخلاق، وتؤكّدُ على ضرورة مراعاة القيم الأخلاقيّة، سواء في العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو في العلاقة بين بين الدّول.

ومن هؤلاء "أرسطو" الذي يعدّ السياسة فرعا عن الأخلاق، ويؤكّد على أنّ وظيفة الدّولة الأساسيّة هي نشر الفضيلة وبناء المواطن على الأخلاق.

وإلى مثل ذلك دعا الفيلسوف الألماني "كانط"؛ الذي يؤكّد على أنَّ السّياسة تقتضي معاملة الإنسان بوصفه غاية في ذاته، وضرورة تغليب الأخلاق في العمل السّياسي.

غير أنَّ العالم الحديث اليوم لا سيما في النّظم الرسميّة؛ لا يُلقي بالا للأخلاق في العمل السّياسي، حتّى تسرّب هذا المفهوم في الفصل بين السّياسة والأخلاق إلى كثيرٍ من المسلمين على مستوى الأفراد والجماعات، فغدوا يردّدون "لا أخلاق في السّياسة". وهم إن لم يرددوا بمقالهِم ولسانهِم هذه العبارة، فقد طبّقوها في أفعالهم وسلوكيّاتهم.

 

العالم الحديث اليوم لا سيما في النّظم الرسميّة؛ لا يُلقي بالا للأخلاق في العمل السّياسي، حتّى تسرّب هذا المفهوم في الفصل بين السّياسة والأخلاق إلى كثيرٍ من المسلمين على مستوى الأفراد والجماعات، فغدوا يردّدون "لا أخلاق في السّياسة"

فيأتي كلام الصّدّيق أبي بكر رضي الله عنه ليعيد الأمر إلى نصابه في العمل السّياسيّ الرّاشد، مؤكّدا على العلاقة العضويّة بين السّياسة والأخلاق.

وعلى المسلمين جميعا، وبدرجة أساسية تلكم الجماعات الإسلاميّة العاملة في المجال السّياسي، أن تعتقد بأنّ تفوّقها الأخلاقي هو ما يميّزها في عملها السياسي وإدارتها وقيادتها للشّعوب.

كما أنَّه يغدو من الضّروري أن تستحضرَ هذه الجماعات والحركاتُ والتّنظيماتُ أنَّ الهويّة الإسلاميّة القائمة على المزاوجة بين السّياسة والأخلاق؛ هي التي تحقّق الرُّشد السّياسي وفق ما أعلنه أبو بكرٍ رضي الله عنه في بيان الحكم.

القائد والمسؤول لا يكذب

خصّ أبو بكرٍ رضي الله عنه الصّدق والكذب في الوثيقة السياسيّة لأنّهما أهمّ ما ينبغي أن ينظم العلاقة في التواصل بين الحاكم والمحكوم.

وبيّنَ أنَّ من أمانة الحُكم أنْ يكونَ الحاكم صادقا، وكذلك من الخيانة أن يكذبَ الحاكم على رعيّته أو على مَن هم تحت قيادته.

فالشّفافية والوضوح والصّدق هي الأعمدة التي تبني الثّقة بين الحاكم والمحكوم، وبين المسؤول ومن هو تحت مسؤوليّته.

 

إنَّ القائد الذي يكذب على رعيّته ومَن هم تحت مسؤوليّته لا يستحق أن يكون قائدا، وهو سرعان ما يسقط من أعين الشّعب والجماهير ويفقد هيبته

ولذلك خصّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الملك الكذّاب بتشنيعٍ مختلفٍ أشدّ مما لو كان الكذّاب شخصا عاديّا؛ كما في صحيح مسلم، إذ يقول صلى الله عليه وسلّم: "ثلاثةٌ لا يكلّمهم الله يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم؛ شيخٌ زانٍ، وملكٌ كذّاب، وعائلٌ مستكبر".

إنَّ القائد الذي يكذب على رعيّته ومَن هم تحت مسؤوليّته لا يستحق أن يكون قائدا، وهو سرعان ما يسقط من أعين الشّعب والجماهير ويفقد هيبته.

كما أنَّ هذه القاعدة التي رسّخها أبو بكرٍ رضي الله عنه ينبغي أن تكون قاعدة في التّعامل بين السّياسي المسلم وغيره من المسلمين؛ دولا وجماعات وكياناتٍ وأفرادا.

فالسياسيّ المسلم الذي يعلن تبنّيه التوجّه الإسلاميّ في العمل السياسيّ والعمل العام ينبغي أن يعلم بأنَّ الكذب على الدّول والكيانات غير المسلمة ليس خيانة بسيطة؛ بل هو خيانةٌ للنّهج الذي يعلن تبنّيه وهو الإسلام، وإساءة للدّين كلّه وتشويه لصورته وصدّ عنه.

وهكذا اختصر أبو بكرٍ رضي الله عنه في أربع كلماتٍ ضمّنَها بيان الحكم المنهجَ الأخلاقيّ في السّياسة في الإسلام؛ فحيثما وجهتَ وجهك ويممت وجهتك ستجدُ أنّ "‏الصدق أمانة والكذب خيانة".‏

twitter.com/muhammadkhm

التعليقات (1)
بن صديق
السبت، 05-09-2020 07:39 ص
بارك الله فيك على هذا المجهود المبذول من أجل تنوير الرأى حول اساس التعامل في الإسلام. رعاك الله وحفظك