كتاب عربي 21

عسكر السودان يقولون: خذونا

جعفر عباس
1300x600
1300x600

يقول مثل إنجليزي، إنك لا يمكن أن تأكل الكعكة وتحتفظ بها في نفس الوقت، وهذا الفعل المستحيل هو ما يحاول القادة العسكريون الكبار في السودان إتيانه، فعندما أدركوا أن نظام الرئيس السابق عمر البشير ساقط لا محالة بسبب الحراك الشعبي الضخم الذي كان ينشد ذلك، قدموا أنفسهم بدلاء له، ولما رفضت الجماهير استبدال عسكري بآخرين، استخدم أولئك القادة كل أسلحة الترويع والبطش، ثم وعندما أدركوا عجزهم عن تطويع وتركيع من ثاروا ضد حكم البشير قبلوا ـ على مضض ـ باقتسام السلطة مع المدنيين على مستوى مجلس السيادة الذي يمثل رئاسة الدولة.

ومنذ تشكيل الحكومة الانتقالية الحالية في السودان وأقطابها الكبار يتعرضون للنقد بشقيه اللطيف والعنيف، ففي ظل مناخ ثوري مازال ينتظم البلاد، لا مكان لأبقار مقدسة، ووجد العسكريون الذين اختاروا ولوج عوالم السلطة والسياسة أنفسهم نهبا لانتقادات شأنهم شأن غيرهم من شاغلي الوظائف العليا في الحكومة، وهو الأمر الذي لم يألفوه في سنين عملهم الطويلة في السلك العسكري.

وهكذا صدر قبل أيام قليلة بيان عن القوات المسلحة يتوعد من يسيئون إليها وينشرون عنها الأخبار الكاذبة عبر مختلف الوسائط بالملاحقة القانونية، وأنه تم تكوين كتيبة من أهل القانون والتكنولوجيا لرصد كل ما من شأنه الحط من قدر القوات النظامية، وتقديم من يقفون خلفها إلى القضاء. 

وأضاف البيان ما معناه أنه تم سلفا التعرف على إعلاميين ومغردين و"موتسبين" تخطوا "الخطوط الحمر" وسيخضعون للمساءلة.

 

على متابعتي الدؤوبة للشأن السوداني لم أسمع بأفراد يحطون من قدر المؤسسة العسكرية بالتشهير أو القذف، ولكنني وغيري نملك شواهد بلا حصر بأن عسكريين من مختلف الرتب هم أكبر من أساءوا لتلك المؤسسة بضلوعهم في انقلابات على حكومات مدنية، أو بتسليم رقابهم لطغاة استخدموهم لقمع المواطنين،

 



ولا يخفى على أحد أن الغرض من ذلك البيان هو القول بأن قيادات الجيش معصومة من النقد، وإذا كان لويس الرابع عشر قد قال أنا الدولة والدولة أنا، فأولئك القادة يقولون نحن الجيش والجيش نحن، ويدنا باطشة "لاطشة"، وبالتالي فالمنشود من ذلك البيان هو الترويع والتخويف والتذكير بأن الجيش (أو بالأحرى قادته) فوق النقد.

وما لم تكن غايتهم الترهيب والتخويف لما كانت بأولئك القادة حاجة لإصدار مثل ذلك البيان، فمن حق أي شخص طبيعي أو اعتباري مقاضاة من يسيئون إليه ويشهرون به وينشرون أكاذيب عنه وحوله، فلا حاجة بي مثلا إلى إصدار بيان بأن كل من يفتري علي الكذب سيتعرض للمساءلة القانونية، ولا حاجة بنقابة سائقي التاكسي مثلا إلى الإعلان عن أنها ستقاضي كل من يذيع حولها أباطيل ملفقة.

حتى في البلدان التي تخضع لحكومات عسكرية باطشة، يسب الناس تلك الحكومات ويلعنون خاشها، ولكنهم لا يسبون الجيوش من حيث هي مؤسسات، وفي السودان لم يتعرض للتشهير والنقد الحارق إلا الجنرالات الذين خانوا العهود العسكرية وولجوا في عوالم السلطة والسياسة، حيث دم الجميع مباح في ظل أي هامش ديمقراطي، وكان تتويج الحراك الشعبي الذي نشد إسقاط حكم البشير هو اعتصام مئات الآلاف أمام مبنى القيادة العامة في الخرطوم لحثها على الانحياز لمطالب الحراك، وهم يهتفون "شعب واحد جيش واحد"، ولو لم يكن الثوار يثقون بقواتهم المسلحة لما فعلوا ذلك، ولكن عددا محدودا من الجنرالات اختاروا الانحياز لأنفسهم في بادئ الأمر، ونصبوا أنفسهم ورثة لحكم البشير الذي ترعرعوا في كنفه، إلى أن أرغمتهم الجماهير على التراجع قليلا والاكتفاء بالمناصب السيادية.

على متابعتي الدؤوبة للشأن السوداني لم أسمع بأفراد يحطون من قدر المؤسسة العسكرية بالتشهير أو القذف، ولكنني وغيري نملك شواهد بلا حصر بأن عسكريين من مختلف الرتب هم أكبر من أساءوا لتلك المؤسسة بضلوعهم في انقلابات على حكومات مدنية، أو بتسليم رقابهم لطغاة استخدموهم لقمع المواطنين، ولم يكن الجيش السوداني بمجمله من خذل المواطنين عندما تعرضوا للقتل الجماعي على أيدي قوات ترتدي الأزياء النظامية في اليوم قبل الأخير من شهر رمضان قبل الفائت أمام بوابات القيادة العامة، بل خذلهم من بيدهم الأمر والنهي من "حماة الحمى" الذين ينشدون حماية أنفسهم من النقد.

قبل أيام قليلة استضافت قناة تلفزيونية شخوصا للحوار حول بيان الجيش الترويعي، وأورد صحفي شارك في الحوار أمثلة للكيفية التي جلب بها الجيش على نفسه الطعن والغمز واللمز، ومنها أن صواريخ أمريكية دكت مصنعا للأدوية في الخرطوم بحري عابرة آلاف الأميال في آب (أغسطس) من عام 1998، ثم قامت إسرائيل بقصف قافلة سيارات بمحاذاة البحر الأحمر، ثم ضربت لاحقا مصنعا للذخيرة في قلب الخرطوم (ويروى عن وزير الدفاع وقتها أنه عزا الفشل في رصد الطائرات الإسرائيلية المغيرة إلى أنها أتت ليلا ومصابيحها مطفأة)، وسرعان ما دخل ضابط برتبة لواء على الخط وتوعد الصحفي بالملاحقة بزعم أنه أفشى أسرارا عسكرية، رغم أن تلك الوقائع التي تعود إلى سنوات بعيدة نسبيا معلومة للعامة والخاصة.
 
مع لغة الوعيد والوعد تلك الصادرة عن قيادة الجيش السوداني والرامية إلى تكميم الإعلام المهني والشعبي تقفز إلى الخاطر مقولة "كاد المريب أن يقول: خذوني".

التعليقات (0)