قضايا وآراء

الاستعمار المائي لمصر والمقاومة الغائبة

هاني بشر
1300x600
1300x600
ترتبط أزمة سد النهضة بعملية استعمارية لمصر متكاملة الأركان، من دون مجازات أو إعادة تعريف لمفهوم الاستعمار وآلياته. ومن المؤسف أن دولة إثيوبيا ومصالحها خارج هذه المعادلة، فالنيل كان جزءا هاما من مشاريع الاستعمار الغربي لمصر والسودان في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، كما يصف لنا المؤلف النرويجي "تيرجي تفيدت" في كتابه "النيل البريطاني".

يكشف الكتاب عن مذكرة سرية صدرت من الخارجية البريطانية، وفيها تقييم لسياساتها عقب إعلان استقلال مصر في عام 1922. وتشير المذكرة بوضوح إلى كيفية تهديد الحكومة البريطانية للحكومة المصرية بخفض مواردها المائية بعد إقامة خزان على بحيرة تانا في إثيوبيا، الأمر الذي سيثير القلق لدى المصريين ويمكّن بريطانيا من إدارة مصر بعد انتهاء أعمال السد، على حد وصف المذكرة.

المسألة الاستعمارية المتعلقة بالنيل أبعد من ذلك، بحسب وصف الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل في حوار تلفزيوني له منذ عدة سنوات، متاح على يوتيوب، يقول فيه صراحة إن قطع المياه عن مصر هو مشروع من مشاريع الحروب الصليبية عمره أكثر من 800 سنة.. حينها حصل الرحالة "فاسكو دي جاما" على تعليمات من البابا إسكندر الثالث بقطع مياه النيل عن مصر؛ عقابا لها على نجاح صلاح الدين الأيوبي في هزيمة الغرب في الحروب الصليبية. وغني عن القول إن هيكل أبعد ما يكون عن إضفاء الطابع الديني على القضايا الاستراتيجية الحالية، ما لم يكن هناك بالفعل تأثير مباشر وقوي.

المثير للريبة أيضا هو الحماس المالي الخليجي في التسابق على تمويل سد النهضة، وعدم اتخاذ هذه الدول أية خطوات لحفظ الحقوق المائية المصرية، مما يترتب عليها حفظ ما وجه النظام الذي تدعمه أبو ظبي والرياض. فلم تتخذ هاتين العاصمتين خطوات تذكر في دعم الملف التفاوضي المصري رغم امتلاكهما كثيرا من أوراق الضغط الاقتصادي والسياسي على إثيوبيا. القضية هنا لا تتعلق بالإسلاميين، ولا ترتبط بأية مصلحة حقيقية لهذه الدول الخليجية مع إثيوبيا.

التفسير المنطقي الوحيد على هذه السياسات الخليجية الداعمة لسد النهضة هو قيامها بدور الوكيل الاستعماري لخنق مصر والتحكم الحالي والمستقبلي في نظام الحكم فيها، سواء بوعي أو بدون وعي.

فالنظام الحالي، شئنا أم أبينا، أصبح مرتبطا بشخص عبد الفتاح السيسي، وبالتالي غيابه عن المشهد قد يؤدي لتغييرات في البلاد مهما كانت الخطط الموضوعة للسيناريوهات البديلة. وربما يكون المطلوب هو أن تتطور خطة خنق مصر من مشروع فردي إلى عملية طويلة ومرهقة تصعّب من الاستقلال السياسي لأي نظام حكم في مصر مستقبلا.

المؤسف أن الخطط الاستعمارية القديمة كانت تواجه بمشاريع تحرر وطني حقيقية. وكان الحكم ممثلا في القصر أو في النظام الجمهوري يقوم بدور ولو هامشي في مواجهة هذه المشاريع مهما كانت الصلات التي تربطه بالدول الاستعمارية. وفي الوقت ذاته كانت هناك قوى اجتماعية وسياسية تؤدي دورها الوطني في المقاومة. الآن لدينا إحياء للميراث الاستعماري بشكل سافر وحقيقي، من دون مقاومة رسمية أو شعبية تذكر. والأدهى والأمر أن دولة مثل إثيوبيا يتم استغلالها كرأس حربة لهذا المشروع، وهي التي تمر بمرحلة تحول ديمقراطي حقيقية ومصالحة وطنية امتد تأثيرها لينقذ السودان من فشل لثورته المجيدة.

لقد أدركت دوائر عديدة في الدولة المصرية حجم الكارثة التي تمر بها البلاد، ووصل الأمر بمناشدة وزارة الهجرة للمصريين كي يستخدموا وسائل التواصل الاجتماعي للكتابة حول هاشتاج يدعم حقوق مصر في النيل. أخيرا أدركت الحكومة الدور الهام للمجتمع المدني ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي في قضايا الأمن القومي المصري، لكنها صحوة متأخرة للأسف في مناخ قمعي لا يسمح للقوى المجتمعية بالقيام بهذا الدور.

twitter.com/hanybeshr
التعليقات (0)