كتاب عربي 21

مرض حفتر: أزمة عقل واستلاب وجدان

السنوسي بسيكري
1300x600
1300x600
حدثني من أثق به أن له أقرباء من حملة الشهادات العليا بعد الشهادة الجامعية، ومن المحافظين على الصلاة، كانوا يرفضون "موت" معمر القذافي، ويجادلون بقوة عن فكرة استحالة فنائه، وينقل لي المتحدث استغرابه أن تشل القوى العقلية لمن لهم صلة بالدين وتحصلوا على شهاداتهم من جامعات الخارج بهذا الشكل. 

هذه الحادثة تثير في نفسي إشكالات كبيرة تتعلق بتفكير طائفة واسعة من الليبيين في تعاطيهم مع الأشخاص والأحداث، الصغيرة منها والكبيرة، وكيف أن هذا التفكير يمثل إحدى أهم عقبات الانتقال والنهوض وتخطي خط الأزمة الراهنة.

ظهور خليفة حفتر وبروزه كأهم شخصية عسكرية وسياسية خلال السنوات الأربع ثم اختفائه لنحو أسبوعين، يمثل اليوم مظهرا من مظاهر أزمة العقل والاستلاب الوجداني التي يتساوى فيها كثير من الليبيين البسطاء، وعديد من المبَّرزين اجتماعيا أو حتى ثقافيا.

من علامات الأزمة التي نتناولها هنا التعلق الوجداني الذي يشل التفكير ويحجب الرؤية، ويختزل الواقع في شخص بعينه، بحيث  تتمحور حياة ومصير أنصاره حوله الأمر الذي يعرضهم لصدمة لا تحتمل إذا وقع ما يقع للبشر من عوارض المرض أو مصيبة الموت.

القابلية للاختراق العقلي والوجداني الذي يقود إلى تضخيم القائد واستحواذه على كيان المتلقي هي من أبرز مظاهر التخلف ومن أهم سياسات التوجيه والاحتواء والسيطرة التي تعتمدها الأنظمة الدكتاتورية الأحادية، ومثالها فارق في تجارب الحكم الشمولي الحديث في لينين وستالين روسيا، وهتلر ألمانيا، وناصر مصر وقذافي ليبيا.

نقل أحد أصدقاء الوسط الاجتماعي منشورا لناشطة مثقفة تسأل: هل يموت من قضى على الإرهاب في بنغازي. 

والسؤال بالقطع استنكاري أو تعجبي من باب الاعتقاد بمحورية الدور الذي لعبه حفتر، لكنه يسير في سياق التضخيم السلبي الذي يسهم في تكريسه المثقفون بقصد أو بغيره.

الإرباك الكبير الذي وقع منذ اليوم الأول للإعلان عن مرض حفتر ومستمر حتى اليوم وبالوتيرة ذاتها يعكس أزمة التفكير والاستلاب على المستوى القيادي وفي أوساط النخبة السياسية.

حالة الإنكار بطريقة فجة، وبتفسيرات مفضوحة ظاهر سطحيتها، تبين الإشكال الذي يدور نقاشنا في هذا المقال حوله.

ولهذا الإرباك والإدارة السيئة لمرض حفتر، علاقة بالاستلاب الوجداني، وبتضخم شخصية القائد في عقول كثير من النافذين سياسيا وعسكريا، وما تقوده من هزال وخوف من القادم في حال موته.

فكيف تفسر أن ينساق رئيس البرلمان وكثير من أعضائه ورئيس أركان جيشه والناطق باسم الجيش وإعلاميون وصحفيون ونشطاء وشيوخ قبائل..ألخ خلف حالة الإنكار، وما يتبعها من تبريرات غير مقبولة لغياب حفتر سوى العجز والقزمية أمام شخص المشير، الذي قاد غيابه إلى حالة الذهول والارتباك التي نشاهدها اليوم.

ولهذا الذهول والارتباك علاقة بالتعامل مع حفتر منذ الأيام الأولى لإطلاقه عملية الكرامة، إذا يدلل التعاطي مع حفتر منذ البداية على الأزمة التي نبحثها في هذه السانحة.

فقد تحول اللواء المتقاعد في فترة وجيزة إلى فريق ثم مشير، واستُحدث له منصب لا وجود له في النظام العسكري الليبي وحتى العربي. وصار فوق المساءلة، إذ لم يخضع لاستجواب واحد من المؤسسة التي عينته ومنحته الألقاب العسكرية، رغم عظم الخسائر التي وقعت بسبب قراراته.

الهتاف الشعبي "الشتاوه" الذي ذاع وانتشر، وهو "حفايا نمشو شور الكيش...نموتو والمشير يعيش"، يكشف في أحد جوانبه عن تقدير أصحابها لمكانة حفتر ودوره، لكنه يمثل نموذجا من بين أمثلة كثيرة تؤشر بوضوح إلى أزمة التفكير والاستجلاب الوجداني وتوابعه، وما يقود إليه من تحقير الذات وتضخيم القائد بشكل يهدم ولا يبني، ويرسم ملامح الأزمة وعمقها، في حال غيابه جزئيا أو كليا.
التعليقات (0)